فوضى التعليم
يبدي الباحثون آراءهم في أزمة العالم الإسلامي في الوقت الحاضر، فمن قائل: إن الاستعمار الأوربي هو الداء الذي ساد في الشرق، وهو الجرثومة الوبائية التي تنفث بسمومها الخطرة، فتصيب المجتمع في فؤاده، فيغدو بها منهوك القوى مقطع الأوصال، ما هي تلك الجرثومة؟ وما هو داؤها الخطر؟ أليست هي المدنية الخاسرة في الحقيقة والرابحة في الظاهر، التي يتعلق المسلم والشرقي بأهدابها تعلق الغريق بحبل النجاة والخلاص؟ ألا يجدر بك أيها المسلم بعد أن تُمعن النظر وترى الحق من الباطل أن تفر من هذه المدنية فرارك من المجذوم؟ ألست ترى شباك الأجنبي قد امتلأت وحبائله قد أفعمت؟ ألست ترى بأم عينك أن فريقًا كبيرًا من أبناء الشرق أصبح عاكفًا ليله ونهاره على مجالس الفسق والدعارة والقمار التي لا يناله من ورائها إلا الخزي والعار؟ ألم تر كيف تَستلب تلك المجالس من المسلم إسلامه ومن المؤمن إيمانه، ومن صاحب الثروة ثروته، ومن صاحب المُروءة والحَميَّة مُروءته وعِفته، ومن قلب المجتمع أواصر المودة وروابط الإخاء والمحبة، التي يدعو إليها صاحب الشريعة الغراء - صلى الله عليه وآله وسلم - بقوله: "من أصبح وهمه غير الله، فليس من الله في شيء، ومن لم يهتم بأمر المسلمين، فليس منهم، ومن أعطى الذلة من نفسه طائعًا غير مكره، فليس منا"؟
وقوله: "لا يتم إيمان أحدكم؛ حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".
ومنهم من يرى أن هذا الهجوم المستمر من الإفرنج لم يكن كله أثر جشع دنيوي وطمع مادي، بل هو تتمة لسلسلة الحملات الصليبية التي قام بها الغرب تجاه العالم الإسلامي منذ أمد بعيد، ويقول ها هو البرهان واضح والدليل قاطع لا ريب فيه؟ ها هي مؤسسات التبشير تسعى جهدها في شرق البلاد وغربها لتوطيد حملاتها الصليبية، وتهيئ شعب ملائم لأغراضها المعادية للإسلام، ولا يَخفى على ذي لُبٍّ وبصيرة ما أدت إليه من النتائج السيئة من تنشئة عدد كبير من شبان البلاد على الإلحاد والمروق من الدين، فأصبح منطبقًا عليهم قول صاحب الشريعة المعظم -صلى الله عليه وسلم-: ((يَمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)).
وإليك أيها القارئ الكريم الإحصاء الرسمي عن مراكز التبشير في المغرب، ولا يخفى عليك ما هو كائن في بلادك وأوطانك.
1- أهم المراكز ذات الكنائس المشتملة على القسس ومساعديهم تبلغ عشرين مركزًا: مركزان لكل مدينة من هذه المدن الكبرى: فاس، مكناس، الرباط، الفتح، الدار البيضاء، مراكش، ومركز واحد لكل من هذه المدن: سلا، الجديدة اسفى، اكادير، وزان، بودنيب، تازا، جرسيف، ميدليت، تادلا.
2- والمراكز الرئيسية للأعمال التبشيرية الأهلية تبلغ عشرة مراكز تقع في الرباط، القنيطرة، مكناس، جدة، الجديدة مراكش، ميدليت، ثار، ودانت، القباب.
3- وهناك مراكز أخرى مهمة وفيها كنائس وقسس تبلغ خمسة عشرة مركزًا.
4- وهناك مراكز في جهات عسكرية تزار ما بين حين وآخر يبلغ عددها ثمانية.
5- ثم مراكز دورية تبلغ تسعة عشر مركزًا.
6- وأما عدد المراكز التي في طريق التكوين فتبلغ ثمانية.
هذا إحصاء بعض مراكز التبشير، وهذه بعض مساعي المبشرين التي احتلت سهول المغرب ووديانه ومناطقه، وطغى تأثيرها حتى بلغ الشرق، فانتشر في مصر وسورية والعراق وفلسطين وغيرها.
ونحن نقول: إن كل هذه العلل التي يقولون بها صحيحة وواقعة بالإسلام، وليس فيها شيء من المبالغة والتهويل، ولكنها كلها أقل خطرًا وأخف ضررًا من طريقة التعليم التي جرت على نهجها الحكومات الإسلامية والمسلمون في هذا العصر، الذين تركوا المدارس التبشيرية تعمل عملها، وتبلغ من الشعب غايتها، وهي الطريقة التي ستكون أشد ويلاً على المسلمين من الاستعمار ومن الحروب الصليبية والغارات الاقتصادية، فلو نظم التعليم في مختلف البلاد الإسلامية على أسس دينية قويمة وتعاليم عصرية لا تناقض الدين بمبدأ من مبادئه؛ لأن ما نراه اليوم من كثرة الإلحاد والمروق، والميل إلى اتباع خطوة الأوربي بكل غثٍّ وتفرُّق في الرأي والمبدأ، وتمكين الأجنبي بدسائسه، وإذعان بعض أفرادنا إليه والسير على مقتضى رأيه حبًّا في دنيا تُنال على يديه.
والخلاصة أننا في فوضى التعليم لفي خطر عظيم، ولم أُشر إلى الأشخاص الذين يذهبون إلى أوروبا للدراسة ثم يعودون إلى بلادهم يعيثون في الأرض فسادًا، خلا مَن كان منهم على عقيدة راسخة قبل أن يغادر بلاده، فإنه عاد واستفاد من دراسته، وكان خيرًا لأمته، ومن رجالها العاملين الأبرار، وأترك للقارئ رأيه في أولئك الأشخاص الذين كانوا عالة على الأمة في ذهابهم وإيابهم وفي بقائهم بين أضلعها اليوم، وليعلم كل منا أن ستكون في العالم الإسلامي بسبب عدم التجانس في التعليم فتن وشدائد بين أبنائه أنفسهم أشد خطرًا من غارات الإفرنج، وأثر ذلك واضح أمام كل ذي بصر وبصيرة؛ فإن احتلال الإفرنج لا بد وأن مصدر يتقلص ظله بالصبر والثبات وانتهاز الفرص، ولن ننجح ولن نفلح إلا إذا كان ثقافتنا الأساسي هو الدين الإسلامي الذي يأمر بجميع الكمالات والأخلاق الكريمة والمدنية الصحيحة، وما هو سائد اليوم من العلوم الطبيعية والآلية والرياضية، مما لا يخرج عن دائرة الدين، فإن الأمم الأوربية الراقية التي مع تبحُّرها بالعلوم الكونية واشتغالها إلى الدرجة القصوى بالمادة لا تزال بانية ثقافتها على ديانة مضى عليها أكثر من 19 قرنًا، وعلى لغات وآداب مضى عليها أكثر من ثلاثين قرنًا، ولم يمنعها الولوع بهذا الجديد من الاحتفاظ بذلك التراث القديم.
فأفضل عمل يقوم به المسلمون اليوم هو تأسيس جامعة قومية تسعى لتوحيد الثقافات ونشرها في شرق البلاد وغربها، والوقوف أمام خطر المدارس التبشيرية التي اجتاحت آراؤها الإلحادية أكثر بلادنا الإسلامية.