بسم الله الرحمن الرحيم
صفحة صدق
فضيلة الشيخ / علي ابن عبد الخالق القرني
.............................
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه.
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
أشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول، وفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا.
صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليما كثيرا.
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (آل عمران:102)
أما بعد عباد الله:
اتقوا الله واعلموا أن المحن محك لا يخطأ، وميزان لا يظلم، يكشف عن ما في القلوب، ويظهر مكنونات الصدور، ينتفي معه الزيف والرياء، وتنكشف معه حقيقة الصدق بجلاء.
إن المحن تطهير ليس معه زيف ولا دخل، وتصريح لا يبقى معه غبش ولا خلل، إنها لتفتح في القلب منافذ ما كان ليعلمها المؤمن عن نفسه لولا المحن.
قد يظن الإنسان في نفسه قبل المحن التجرد والنزاهة، فإذا وقعت الواقعة تبين من بكى ممن تباكى، تبين الغبش من الصفاء والهلع من الصبر، والصدق من الكذب، والثقة من القنوط.
عندها يدرك المرء أنه بحاجة إلى تمحيص ومراجعة، فمن الخير له أن يستدرك نفسه قبل أن يكون عبرة ويقع ضحية.
( وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (آل عمران الآية154).
بالمحن تستيقظ الضمائر وترق القلوب وتتوجه إلى بارئها تضرع إليه وتطلب رحمته وعفوه، معلنة تمام العبودية والتسليم الكامل له لا حول ولا قوة إلا به.
لا مهرب منه إلا إليه، ما شاء كان وما لم يشاء لم يكن، لا معقب لحكمه لا إله إلا هو.
باق فلا يفنى ولا يبيد ........ ولا يكون غير ما يريد
منفرد بالخلق والإرادة ...... وحاكم جل بما أراده
سبحانه وبحمده.
عباد الله:
وصور المحن والمنح في السيرة جليلة وكثيرة، وجديرة بالتملي والتأمل.
والحديث كما تعلمون بل كما تشعرون عن سيرةَ المصطفى (صلى الله عليه وسلم) وصحبِه حديثٌ تُحبُه وتُجلُه النفوسُ المؤمنةُ، تأنسُ به قلوبُ بالإيمانِ هانئةٌ مطمئنةٌ، حُبه في شغافِ القلوبِ والأفئدةِ، وتوقيرُه قد أُشربت به الأنفُسَ بأبي هو وأمي (صلى الله عليه وسلم).
فهلمَ هلم عباد اللهِ لنتصفحَ ونتفحص صفحةَ صدقٍ بيضاء نقيةٍ لنرى من خلالِها المحنةَ بكلِ صورِها، وبالصدقِ تُتخطى، لنعلمَ عبرَها وعِضاتَها فقد مُلئت عبراً وعبرات، وفكراً ونظرات، دموعاً حرى وحسرات، هجرُ الأقربينَ فيها شديدُ المضاضهِ ومع ذلك بارزٌ وظاهر، وتزلفُ المناوئين والمنافقين فيها مشرئب زاخر، صفحةٌ ملئت بأحداثٍ تذرفُ منها الدموع، وتخشعُ لها القلوب، صفحةٌ جسدت الصدق والإخلاصَ والقدوة بالصبرِ على الضراء والشكرِ على السراء تطبيقاً عملياً ماثلا.
إنها صفحةٌ بُدئت باستنفارِ رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) أصحابه لملاقاة من؟
لملاقاة الروم يوم تحركوا بعسكرهم وفكرهم ودسائسهم يطفئوا نورَ الله بأفواههم واللهُ متمُ نورِه ولو كره الكافرون.
إنه استنفارٌ وأي استنفار في أيامٍ قائظة وظروفٍ قاسيةٍ، في جهدٍ مضنيٍ ونفقاتٍ باهظةٍ، طابت الثمار، واستوى الظلال، وعندها بدأ الامتحانِ ليسطرَ في آياتِ في آيات الكتاب بإفاضة واستيعاب، أفاضت آيات الله في أنباء الطائعين والمثبطين، واستوعبت أنباء المخلصين والقاعدين، فيالها من مشاهد وأحداث تتنوع وتثير.
يجيء المعذرون ليُؤذنَ لهم، ويقعدَ الذين كذبوا اللهَ ورسولَه، ويتولى الذين لم يجدوا ما يُحملونَ عليه بفيضِ دموعِهم حزناً أن لا يجدوا ما ينفقون.
ويرجفُ المرجفون ( لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) (التوبة: الآية81).
والساقط في الفتنة يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي وفِي الْفِتْنَةِ وقع، فر من الموت وفي الموت وقع.
وآخرون يلمزون ويسخرون من المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم،فمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ.
ومنهم رجالٌ تخلفوا عن ركب المؤمنين لا عن شكٍ ولا عن نفاقٍ لكن غلبتُهم أنفسُهم، وأدركَهم ضعفَهم البشري مع سلامةِ إيمانهم ومعتقدِهم رضي اللهُ عنهم وأرضاهم.
على رأسِ هؤلاء صحابيٌ جليل، مجاهد نحرير لن يبلغَ آلفُ رجلٍ منا بالقولِ ما بلغَه مرةً واحدةً بالفعل، لكنَه بشرٌ تبقى له بشريتُه غيرُ معصوم.
لنقفَ مع صفحةٍ من صفحاتِ حياتِه، صفحة تتضمنُ قصةَ الخطيئةِ ، وحقيقةَ التوبةِ أهيَ قولٌ باللسانِ أم هيَ الندمُ الدافعُ لعملِ الجوارحِ والأركان والتأثرُ البالغُ في النفسِ والجنان.
صفحتنا مثبتة في الصحيحين، راويها صاحب المعاناة فيها، فأسمع إليه عبد الله تجد كلامه يدخل الأذن بلا إذن، أصغ إليه وهو يتحدث عن نفسه ويخبرنا عن سوف كيف صنعت به، فيقول وقد تخلف عن تبوك:
وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله ما اجتمعت عندي راحلتان قبلها قط، ولم يكن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يريد غزوة إلا ورى بغيرها حتى كانت تلك الغزاة، في حر شديد واستقبل سفرا بعيد ومفازا وعدوا كثيرا، فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم فأخبرهم بوجه الذي يريد.
والمسلمون مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كثير لا يكاد يجمعهم كتاب فما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أنه سيخفى ما لم ينزل وحي الله.
وغزا رسول الله (صلى اللله عليه وسلم) والمسلمون معه، يقول فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولم أقضي شيً، فأقولُ في نفسي أنا قادرٌ عليه فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجد، وأصبح رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والمسلمون معهم ولم أقضي من جهازي شيئا، فقلت أتجهز بعده بيومٍ أو يومين ثم ألحقهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقضي شيئا.
قال فلم يزل بي ذلك حتى أسرعوا وتـفارط الغزو وفات، وهممت أن ارتحل فادركهم - وليتني فعلت - فلم يقدر لي ذلك، ويأخذ ذلك من كعب مآخذه، وتبلغ الحاسبة ذروتها ولسان حاله:
ندمت ندامة لو أن نفسي...... تطاوعني إذا لقطعت خمسي
عباد الله :
إن كعباً رضي اللهُ عنه يعيشُ كل يومٍ مع سوفَ وهذه والله ليست مشكلةُ كعبٍ فحسب، إنها مشكلةٌ كبيرةٌ في أمة الإسلام، مشكلةٌ التسويف، استطاع الشيطانُ أن يلج إلينا من هذا البابِ الواسع ونحنُ لا نشعرُ، حالَ بينَنا وبين كثيرِ من الأعمالِ قد عزمنا على فعلها ، فقلنا سوف نعملها ثم لم نعمل:
كم من مذنبٍ قال سوف أتوب وداهمَه الموتُ وما تاب.
كم من باغٍ للخيرِ عازم عليه وأدركَه الموتُ ولم يستطع ذلك حال بينَه وبين الخيرِ سوفَ.
كم من عازمٍ على الخيرِ سوّفَه.
كم ساع إلى فضيلة سوف ثبطته وقيدته.
فالحزم الحزمَ بتداركِ الوقت وترك التسويف فإن سوف جنديٌ من جنودِ إبليس.
فأطرح سوف وحتى ........ فهما داء دخيل
يقولُ كعب:
فكنتُ إذا خرجتُ في الناس بعد خروج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أحزنني أن لا أرى أسوة لي إلا رجلاً مغموصا علي النفاق، أو رجلا ممن عذره الله من الضعفاء واللذين لا يجدون ما ينفقون.
ولم يذكرني رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) حتى بلغَ تبوك فقال وهو جالسُ بين أصحابِه:
ما فعلَ كعب ؟
فقال رجلُ من بني سلَمة: يا رسول الله حبسَه برداه ونظره في عطفيه ( أي إعجابه بنفسه).
فقال معاذُ وقد استنكرَ الأمرَ وهو يعلم من أخيه ما يعلم: بئس ما قلت واللهِ يا رسولَ الله ما علمنا عليه إلا خيرا. فسكتَ (صلى الله عليه وسلم).
أيها المسلمون:
إن معاذً رضي اللهُ عنه لم يسَعَه السكوت وهو يرى من ينالُ من عرضِ أخيه المسلم فبادرَ بالإنكار، لم تغلبه المجاملة فيسكتَ كما يفعلُ البعض، كيف يسكت وهو يعلم قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم):
( كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه، من رد عن عرض أخيه رد الله عن عرضه وعن وجهه النار يوم القيامة). ويهو يعلم أيضا أن الساكت كالراضي، والراضي كالفاعل فلينتبه.
يقول كعب:
فلما بلغني أنه توجَه قافلا (يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم) حضرني همي – حضره بثه وحزنه- قال فطفقت أتذكر الكذب وأقولُ: بماذا أخرج من سخط رسول الله (صلى الله عليه وسلم) غدا.
واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلم قيل إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد أظل قادما، زاح عني الباطلَ وعرفت أني لن أخرج منه أبداً بشيءٍ في كذب فأجمعتُ صدقَه ويا له من رأي.
وقدم (صلى الله عليه وسلم) ثم جلسَ للناسِ، وجاءه المخلفون يعتذرون إليه ويحلفون له فقبلَ منهم علانَيتهم ووكل سرائرَهم إلى الله وهذا هو منهجنا.
وجئته فلما سلمت عليه تبسمَ تبسم المُغضب ثم قال تعال، فجئت أمشي حتى جلستُ بين يديه، فقال:
ما خلفَك يا كعب، ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟
فقلتُ يا رسولَ الله:
والله لو جلستُ عند غيرِك من أهلِ الدنيا لرأيتُ أني سأخرجُ من سخطِه بعذر، واللهِ لقد أُعطيتُ جدلا، ولكني والله لقد علمتُ أني لإن حدثتُك اليومَ حديثِ كذبٍ ترضى به عني، ليوشكَن اللهَ أن يسخطَك علي، ولأن حدثتُك حديث صدقٍ تجد علي فيه إني لأرجُ فيه عفو الله، واللهِ يا رسولَ الله ما كان لي من عذر، والله ما كنتُ قط أقوى ولا أيسرَ مني حين تخلفتُ عنك.
فقال (صلى الله عليه وسلم) أما هذا فقد صدق، قم حتى يقضيَ الله فيك.
صدقٌ، وضوح، صراحة لا التواء ولا مراوغة، علم كعبُ أن نجاتَه في الدنيا والآخرةِ إنما هي في الصدق، وقد هدي ووفق للصواب، والموفق من وفقه الله.
يقول كعب فقمتُ وثار رجال من بني سلمة فأتبعوني وقالوا لي:
واللهِ ما علمناك يا كعبُ قد أذنب ذنبا مثل هذا، أو قد عجزت أن لا تكونَ اعتذرتَ إلى رسولِ الله بما اعتذر إليه المخلفون، قد كان كافيك ذنبَك استغفارُ رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) لك.
يقولُ فواللهِ ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجعَ فأكذبَ نفسي.
عباد الله:
ما أشد خطر صديق السوء، كاد يهلك سعد بسبب بني عمومته الذين يظهرون بمظهر الناصح المشفق، وهم يدفعون به إلى واد سحيق من الهلاك هلك به جمع كبير من المنافقين.
إنها مقالة ويا لها من مقالة كثيرا ما تتكرر في مجالسنا، يتهمون الصادق بأنه طيب القلب غر لا يحسن المراوغة ولا المخارج، ويصفون الكاذب بالذكي الألمعي العبقري، وكبرت كلمة تخرج من أفواههم.
أرأيت لهؤلاء عندما وصفوا الأمر لكعب بأنها أول كذبة ولا ضير منها، وسيعقبها استغفار رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعد ذلك، وكل ذلك وسائل لتزيين الباطل يبهرجها قرين السوء من حيث شعر أو لم يشعر فلينتبه.
فمن العداوة ما ينالك نفعه........ ومن الصداقة ما يضر ويألم
وأعلنت المقاطعة لهذا وصحبه، بل التربية النبوية العميقة.
يقول كعب:
ونهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) المسلمين عن كلامنا من بين كل من تخلف عنه، قال فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لي الأرضُ فما هي بالأرضِ التي أعرف، ولبثنا على ذلك خمسين ليلةً، وكنتُ أشد القوم وأجلَدَهم فكنتُ أخرجُ فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف الأسواق فلا يكلمني أحد،، وآتي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو في مجلسِه بعد الصلاة فأسلمَ عليه فأقولَ في نفسي هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا.
ثم أصلي قريباً منه فاسارقَه النظر فإذا أقبلتُ على صلاتي أقبل إلي، وإذا التفت إليه أعرض عني، حتى إذا طال علي ذلك من جفوة الناس، مشيتُ حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو أبنُ عمي وأحبُ الناسَ إلي، قال فسلمت عليه، فواللهِ ما ردَ علي السلام.
فقلتُ له نشدتُك الله هل تعلمني أحبُ اللهَ ورسولَه ؟ فسكت.
فنشدتهُ فسكت، فأعدتُ عليه فنشدته فقال اللهُ ورسولُه أعلم، ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار أهيمُ على وجهي.
وأنظر أخي في الله كيف تكاتف المجتمع المسلم بكاملة، وامتثل الأمر الموجه إليه، فلا أحد يكلمه، حتى ولو كان ذلك في غيبة أعين الرقباء، نعم إن الرقابة لله، حتى ولو كان ابن عمه، نعم إن المراقبة لله.
إن أضر شيئا على المجتمع أن يجد أهل الفسق والفجور صدورا رحبة تحتضنهم وترضى عنهم وتبجلهم وتقدرهم، ولو أن العصاة والمنحرفين وجدوا مقاطعو وازدراء عاما لكان دافعا إلى أن يرشد الغاوي ويستقيم المعوج ويصلح الطالح.
انظر إلى ذلك الأسلوب التربوي العميق المتمثل في تلك المقاطعة النفسية والاجتماعية التي شملت مختلف مجالات الحياة الاجتماعية، في الأسواق، في المساجد، مع الأصدقاء، بل حتى مع بني العمومة، بل حتى مع الزوجة، فلم تترك منفذا يمكن أن يخل بهذه المقاطعة أو يحول دون تحقيق الغاية التربوية منها.
كان لذلك تأثير عميق على النفوس الخيرة التي تعودت أن تألف وتُألف وذلك عين الحكمة من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) التي تقضي باللين في مكانه، والشدة في مكانها، وهذا ما يحتاجه الناس في دعوتهم، وتعاملهم وتربيتهم لمن تحت أيديهم.
عبد الله:
وهل تخفى أخبار المجتمع الإسلامي على الأعداء، إن هناك صفا يعمل داخل الصف الإسلامي دائما، ولذلك يجب أخذ الحيطة والحذر، وأن لا تكون أسرار وخفايا المجتمع المسلم معلنة للجميع لتنقل للعدو فينفذ من داخلها للمسلمين.
يقولُ كعبٌ: فبينا أنا أمشي في سوقِ المدينة إذ نبطي من أنباط أهلِ الشامِ يقول: من يدل على كعب؟
فطفق الناس يشيرون له إلي حتى جاءني فدفع لي كتابا مِن مَن؟
من ملك غسان، فإذا فيه أما بعد:
فإنه قد بلغني أن صاحبك ( يعني رسولَ الله صلى الله عليه وسلم) قد جفاك، ولم يجعلُك الله بدارِ هوانٍ ولا مضيعة فألحق بنا نواسك.
فلما قرأتها قلت أيضا هذا من البلاء، هذا من الامتحان فيممت بها التنور وسجرته بها (احرقها).
عباد الله:
هذا هو ديدن أعداء الله، يتحسسون الأنباء، ويترصدون الفرص والأخطار، وكم من الأقدام في مثل هذا زلت وانزلقت، إن المسلم قد يخطأ ولكنه لا يعالج الخطأ بخطأ آخر، قد يخطأ فيتخلف عن الغزو في سبيل الله، لكنه لا يتبع هذا بخيانة الأمة وموالاة أعداء الله ومظاهرتهم على المؤمنين.
إن أداة المعصية يوم تكون قريبة فإنها تذكر بالمعصية، وتفتح للشيطان باب الوسوسة والمراودة الكرة بعد الكرة، أما كعب فقد تخلص من هذه الأداة فأحرقها حتى يغلق مثل هذا الباب رضي الله عنه وأرضاه وهذا هو الحل.
إن آلة المعصية التي توجد في المنازل، في المكاتب، وفي غيرها، يوم تترك بعد العلم بضررها فإنها مدعاة لأن يضعف أمامها يوما ما، ويعاود القرب منها والممارسة لها إلا من عصم الله، فلينتبه وليتخلص منها كما فعل كعب بالرسالة، يمم بها التنور فسجرها.
ولا يزال البلاء والتمحيص بكعب، حتى أمر باعتزال زوجته فامتثل الأمر واعتزلها وطلب منها اللحاق بأهلها حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
يقولُ كعب:
وكملت لنا خمسون ليلةً وأنا على ظهرِ بيت من بيوتنا، فبينما أنا جالس على الحال التي ذكرها الله في ما بعد قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرضُ بما رحبت، سمعتُ صوتَ صارخٍ أوفى على جبل سلع بأعلى صوته:
يا كعبَ أبشر بخيرِ يومٍ مر عليكَ منذُ ولدتكَ أمك.
قال فخررتُ ساجداً شاكراً لله عز وجل، وعرفتُ أن قد جاء الفرج.
نعم جاء الفرج وانبلج الفجر بعد أن بلغ الليل كماله في السواد.
وأدرك كعب عظم نعمة الله عليه بصدقه، فقال بعد ذلك: واله ما أنعم الله علي من نعمة بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله (صلى الله عليه وسلم).
وتأتي البشرى وأي بشرى بحسن العقبى، يركض بها الفارس، ويهتف بها الراكب، وعلى مثلها تكون التهاني، لمثلها تكون البشائر والجوائز.
يقول كعب فلما جاءني الذي بشرني، نزعت له ثوبيَ فكسوته إياهما، والله ما أملك غيريهما، واستعرت ثوبين فلبستهما وانطلقت إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ودخلتُ عليه في المسجد، فإذا هو جالس والناس حولَه جلوس فقام إلي طلحةُ فرحا مغتبطا يهرولُ حتى صافحني وهنأني، وللهِ ما قام إلي رجلٍ من المهاجرينَ غيرَه و ولله ما أنساها لطلحةَ رضي الله عنه.
الله أكبر ما أعظمَه من تعاملٍ لصحابةِ مع أخيهم، بالأمسِ القريب لا يتحدثونَ معه، ولا يردون عليه السلام، واليوم يتنافسون في من يصلَ إليه أولاً ليبلغه نبأ التوبة.
إنه حبُ الخيرِ لأخيهم كما يحبونَه لأنفسِهم ولكن تحت ضوابط الشرع وأوامرَ الشارع.
قال كعب:
فسلمت على رسولِ الله (صلى الله عليه وسلم)، فقال وهو يبرق سرورا وجهُه كأنه فلقة قمر:
أبشر يا كعب بخير يومٍ مر عليك منذ ولدتك أمك.
فقلت أمن عندك يا رسولَ الله أم من عندِ الله؟
فقال بل من عندِ الله، فحمد الله وأثناء عليه.
( وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ). (التوبة:118)
وفاز الصادقونَ بصدقهم، وحبطَ عملُ الكاذبين واللهُ لا يهدي القومَ الفاسقين، وظهر الاعتبارُ بكمالِ النهايةِ لا بنقصِ البداية.
هؤلاء هم رجلُ الصدق، رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه، تخرجوا من مدرسةِ النبوة:
صدقُ في الإيمان.
قوةُ في اليقين.
صدقٌ في الحديث.
صدقٌ في المواقفِ.
صبرُ عند اللقاء.
اعترافٌ بالخطيئةِ.
كلمةُ الحق في الرضاء والغضبِ من غيرِ تنميقِ عباراتٍ أو تلفيقِِ اعتذارات.
( أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) (الأنعام:90) .
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة:119)
عباد الله:
اتقوا الله وكونوا مع الصادقين، وعودوا معي والعود أحمد إلى كعب ابن مالك صاحب القصة رضي الله عنه وأرضاه.
فإن الأمر لم يقف عند بشارتِه بالتوبة وتهنئته بالقبول، إنما جلسَ كعبُ بين يدي رسولِ الله (صلى الله عليه وسلم) معلناً التأكيدِ لهذه التوبةِ والتمسكَ بها، قائماً مقام الذاكرين الشاكرين التائبين المخبتين، قائلاً يا رسولَ الله:
إن من توبتي أن أنخلعَ من مالي صدقةً إلى لله ورسولِه.
فقال عليه الصلاة والسلام، أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك.
ثم يعلنُ أخرى رضي الله عنه التمسك بالصدق سلوكا ثابتا في مستقبل حياته إذ بالصدق نجى فيقول يا رسول الله:
إن الله إنما أنجاني بالصدق وإن من توبتي أن لا أحدثّ إلا صدقاً ما بقيت.
حاله كحال الآخر يوم يقول: والله لو نادى مناد من السماء أن الكذب حلال ما كذبت.
يقول كعبُ فواللهِ ما علمتُ أحداً من المسلمين أبلاه الله في صدقِ الحديث منذ ذكرتُ ذلك لرسولِ الله (صلى الله عليه وسلم) أحسن مما أبلاني الله به.
ولله ما تعمدتُ كذبةً منذ قلت ذلك لرسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) إلى يومِ هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله في ما بقيت، ولله ما أنعمَ الله علي نعمةٍ قط بعد أن هداني للإسلام أعظمَ في نفسي من صدقي لرسولِ الله (صلى الله عليه وسلم). لما يا كعب ؟
قال أن لا أكونَ كذبتُه فأهلك مع اللذين كذبوا، فإن قال فيهم شرَ ما قال لأحد يوم قال سبحانه:
( سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) (التوبة:95-96)
عباد الله:
اعلموا أن الصدقَ فضيلةً وطمأنينة وصفةً من صفاتِ المؤمنين، فعليكم به وليكن قدوتَكم كعباً وصحبَه ومن اقتدى به، فليسَ بينَك وبينَهم حاجب.
إذا أعجبتك خصال امرئ ....... فكنه يكن منك ما يعجبك
فليس على الجود والمكرمات.... إذا جئتها حاجب يحجبك
تحروا الصدق وإن رأيتم الهلكَة فيه، فإن النجاة فيه.
وإياكم والكذب وإن رأيتم النجاة فيه فإن الهلَكة وعظيم الفتنة به.
وكم تركت الفتن من قلب مقلب وهوى مغلب، وكم سار في طريقها من كادح فكثر الهاجي وقل المادح.
وما النفسُ إلا حيث يجعلُها الفتى........ فكنِ الحرَ وقُدها بزمام
وأصدُق حديثَك إن المرءَ يتبعهُ.......... ما كان يبني إذا ما نعشُه حملا
اللهم اجعلنا من الصادقين، اللهم اجعلنا من الصادقين الصابرين الشاكرين.
اللهم صلي وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم آتي نفوسنا تقواها.
اللهم زكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولها. وأنت أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأنصر عبادك الموحدين.
اللهم ارحم من لا راحم له سواك، ولا ناصر له سواك ولا مأوى له سواك، ولا مغيث له سواك.
اللهم ارحم سائلك ومؤملك لا منجى له ولا ملجئ إلا إليك.
اللهم كن للمستضعفين والمضطهدين والمظلومين.
اللهم فرج همهم ونفس كربهم وارفع درجتهم واخلفهم في أهلهم.
اللهم أنزل عليهم من الصبر أضعاف ما نزل بهم من البلاء.
يا سميع الدعاء
الله ارحم موتى المسلمين، اللهم إنهم عبيدك بنوا عبيدك بنو إمائك احتاجوا إلى رحمتك وأنت غني عن عذابهم، الله زد في حسناتهم، وتجاوز عن سيئاتهم أنت أرحم بهم وأنت أرحم الراحمين.
سبحان ربك رب العزة عن ما يصفون وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
................................................